((مشروعية الغواية في مواجهة الأنانية ))
دراسة نقدية كانت لي في نص الشاعرة الأديبة اللبنانية شاعرة الياسمين الدكتورة منى ضيا - أبحث عن رجل - أحترامي لها والود. ألمقدمة :
لم يسبق لي ان شعرت بلذة للبحث عن شيء فقد اعتاد المرء انه لايبحث الا عن شيء يشعر بالحاجة الماسة اليه جوعا او عطشا او علاجا او سدا لفراغ .فألألم هو دافع البحث المعتاد .لكن العجب العجاب حين يكون دافع البحث هو اللذة لأن البحث ماهو في حقيقته الا منقصة تعصف بالمرء فيبحث عما يكمله .لذا لايمكنني المجازفة بالقول ان شاعرة النص كانت تلتذ في خضم ذلك البحث لكن يكفيني ان اعبر عن شعوري وأنا اعيش حالة البحث بالنص الذي ماهو الا مشاعر صاخبة للبحث قد تكون مطابقة ماعشته وماشعرت به في خضم ذلك الجو العاطفي العجيب الذي لم يسبق لي ان دخلت اجواء عاصفة بكل غرائب الأحساس في نشوة تخترق اقوى حصون الوجدان وتزلزلها وتخرج الفرح معاقله في نشوة كان البحث عنوانها العام وكان الخاص والذي ارتأته كاتبة النص او كما اطلقت عليه عنوان (أبحث عن رجل).
ألمدخل :
كانت اولى عبارات النص ،(أبحث عن رجل يغويني) والمتعارف ان المرء الذي يتوق لحياة ضمن المسار المعتاد لمعظم البشر هو فراره عن الغواية ذات الخطر المحدق والتي قد تصارع الذهن وتتداخل في قناعاته لكن الشاعرة أرادت ان تبدأ عبارتها الأولى بما هو استثنائي وغير مألوف لأن ماتشعر بالاحتياج اليه لم يكن أمرا عاديا كأحتياج أي أمرأة .ليس هذا فحسب بل كونها حددت (رجل يغويني) يفصح أن موضوعها وقضيتها هي خارج مملكة الأنوثة .وأي أنوثة تلك التي طغت وبلغت الى قمة القوة على اشد نضوجها وتكاملها ماجعلها تبحث لمن يصارعها طغيانها ويخمد ثوران مشاعرها لتستقر تلك المملكة التي بلغت من القوة والقدرة ماجعلها تبلغ مقامات التحدي والذي تراه ضرورة لابد منها كي تكون الأمور في نصابها وتنعم بأنوثة وجدت كفؤها من خارجها وتوازن فيها كل شيء واعتدل وتحقق ميزان الطبائع فيها واقيم فيه العدل .فميزان يثقل من كفة لايبدو مرضيا ولا مقبولا لدى صاحبه فضلا عن غيره . وتبدأ الكاتبة بتحديد اولى مهام ذلك المبحوث عنه قائلة (ينثر الحب غنائم في عريني ) ومن كلمة عريني نفهم ان قوى الانوثة فيها قد بلغت مبلغ العرين فلا يتجرأ عليها احد بل لايتجرا على الأقتراب منها احد لشحة فرص التكافؤ معها .لذا كانت تبحث عمن يمتلك جرأة الملوك وسلطة السلاطين ليتجرأ على ذلك العرين ويفكر به وينثر عليه من ندى الحب .والنثر غالبا يكون من الأعلى فهي تريده نثرا ساميا من العلياء لا من جهتها المدرعة بحصون القوة بل هي تريده أن ينثر الحب من جهة عمودية تقابل سطح العرين وتخترقه من السطح الأعلى وعبر نافذته التي لاتواجه الأعين هي تريد لذلك الرجل ولوج رأسها وذهنها الذي هو العرين الذي لاينثر فيه الحب سوى ملك منتصر من ملوك الحب ينتصر ويغنم من الجمال ماينثره محلقا من علياءه على ذلك العرين العجيب .وتسهب في صفات المبحوث عنه (رجل يكون كسخط الرعد)والسخط هنا يرمز لقوة الحلول التي تريد لذلك الرجل ان يحل فيها او ينثر عليها غنائم انتصاراته التي اكتسبها من عوالم الجمال وفضاءاته لأجلها فهي لاتريد له ان يحل تدريجيا بل فجأة كألرعد حين يحل على الأرض وتفصح ايضا عن توقيت تتوق اليه محددة أياه (في عتمة كانون) تلك العتمة الباردة التي تتجمد فيها الطبيعة ولاتتحرك الا بقصف كسخط الرعد فتهتز لحلول صوته وتتهيأ لسحب امطاره .أرادت لذلك المبحوث عنه ان يحل (كصاعقة يجذبه التيار) في حيز المواجهة أمام تلك الطبيعة التي تواجهه بما يثير جنونه فيسرع مثل صواعق البرق ولم تترك الشاعرة مجالالتلك الصواعق دون ان ترسم لها مسارا كي لايضل صاحبها لفرط سرعته فتوجهه قائلة :(فيضرم الجمر في كهف السنين) واصفة برد العمر وقمة شتاءه التي لاتتحرك لدفئ عادي بل لايراقصها الا الجمر ذلك الذي ينفض عن كاهلها برد الأنتظار ولأن للجمر لونا يخترق تلك العتمة بما يلفت الأنتباه ويكسر الليل في عقر داره صورة وأحساسا ..الجمر هو موقد التشويق المضطرم .هي كما لو انها تبحث عن لسعات أشتياق من جمر الحلول وفي آن واحد تكسرعتمة ملل الأنتظار وتذيب برده .وتتوسع في المهام التي تريدها لذلك المبحوث عنه قائلة (كأعصار ينقض) .هي تريده ان يهزها من اعلاها كغابات الشجر ويزلزلها كما الأرض من تحتها ويغرق عشبها بالسيول ككل الاعاصير. كانت تريد انقضاضه بغتة تتفاجأ بها دون ترقب واحتساب وهكذا كل مفاجأة فهي تحدث بعيدا عن التكهنات وخارج أسيجة التوقعات وذلك سر الأثارة فيها ويعظم بذلك اثرها .وتعود من جديد لتحديد الوقت المرجو لتلك المفاجأة لتكون مفاجأة قصدية الحلول فلم تريد لتلك المسابقة ان تسبق القصد كما لو كانت صدفة تجري وتصطحب معها قصدها بل ارادت للقصد ان يكون هو روح المفاجأة ومسارها ودافعها وطريقها لذا حددت الوقت المرجو لحدوثها واصفة أياه (في هجعة الليل) حيث تكون كل اجراس الأنذار لدى الحواس متوقفة وبعيدة كل البعد عن عملها الذي يطيح بأثارة اي مفاجأة ويبدد دهشتها .هي تريد لتلك المفاجأة ان تحدث على منتصف طريق العمر وتواصل رسم خريطة عمل لذلك المبحوث عنه قائلة (يلتف حولي) ليحتوي كل مافيها فلا يترك منها شيء لغيره ولامجالا يبقي فيها الى غيره لانه لو ألتف على جزء لخرج آخر عنه وتمرد عليه ولم يعلن له الولاء .وتقول أيضا (يقتلع جنوني) وبالطبع ان اقتلاع الجنون هو امر فوق المعتاد فكانت تطالبه بعمل استثنائي خارق للروتين والمعتاد متحرر من سلطتيهما التعسفية المحفوفة بأنواع من الملل المحدق .ومن وجهة نظري ان الجنون قد يقتلعه جنونا اعظم منه واشد اثرا يبدده ويذيبه فيه فيحتوي قلب الجنون الاعظم قلب الجنون الأصغر ويقتلعه منه اليه لا الى غيره. وبعد ذلك ترسم آلية لذلك الأقتلاع المنشود فتقول عنه (كفيض أنهار) في توقها لفيض غير محدود الاتجاه وغير مقيد لجانب فهو يفيض ويغرق كل ما حوله من حقول ويغمر التراب دون رحمة وماذلك الفيضان النهري سوى باب يفضي لمسار اكبر او هو الترتيب في الفيض والغمر فتتبعها بعبارة (كطوفان بحور) المستصحب للأمواج العاتية التي التي تطيح وتحطم مافوقها من راسيات السفن وتضرب سواحل المدن وتنسف قصور الرمال المشيدة بأنامل العشاق الحالمين وتطيح بكل صخور وجدران وضعت على شاطئ البحر لتقيد سكونه ظنا منهم ان سكون البحر ليس له من القوة مايحطم بها كل مبان للعادات وحصون التقاليد التي شيدتها ايادي من يستضعفون البحر ويستهينون بقواه الكامنة في اعماقه وان بدا لهم رقيقا تخترقه حبة رمل لكن له مايطيح بجبالهم ويغرق اوديتهم ان قرر ذلك وعزم عليه.فكان لابد من جنون كطوفان البحر لينسف كل هذه الخزعبلات التي شيدها من يظن نفسه عاقلا وظن ان لديه من الامكانيات مايجعله يتحكم في جنون ذلك السكون الذي يبدو ممكنا للمتسطحين ويبدو مستحيلا للمتعمقين الذين اختبروا سحر اعماقه المهلكة .وتواصل رسم مسار الولوج لذلك الرجل (ويجرف ماشاء من صخب وسكون ) هي تريد له ان يتحرك بطاقة غير الطاقة المألوفة فيحرك مكنونات القاع ويجرفها ويخرجها ويخترك بذلك السكون فيجعل تلك الاعماق تصرخ من حلوله فيها تئن من الصخب وتقذف بصخور انينها محطمة مرآة سكون الصمت ومبددة صورته في وجه حياتها ابدا. وتحدد مسارا آخر في الأعماق قائلة (يحطم الأقفال يصدع صخوري) هي تريد له ان يحطم فيها تلك القناعات التي استحالت اقفالا تقيد عمق السكون فيها بالملل تريد له ان يكسر تلك الاقفال فجأة دون حذر او تردد يضربها بمطرقة فطنته ويصدع تلك الصخور بمعول ذكاءه وسحره ويشق فيها طريقا للماء لينفذ اليها فترق لحالها وتلطف بنفسها وتطفو محملة بالماء على شاطئ السكون ومساره الأخير الذي ترسمه له بقولها :(يتمرد وينتزع شجوني ويغويني ) .هي لاتريد له ان يساير السكون بالسكون بل تريد له ان يتمرد ويثور ويحطم ذلك السكون ويبرز له صوتا فلا صمت يبقى لذلك السكون من خلاله. تريد له ان ينتزع الشجون ولايكون له ذلك الا في ثلاثة احتمالات أولها الموت فلاشجون من بعده وهي بالفعل تريد ان تموت لذة في محضره .والثاني انتزاع الشجون بالشجون حيث ينتزع الشجن الأكبر للشجن الأصغر تتوق ان يوجد فيها شجن الشوق والأنتظار فلا شجون تبقى امام تلك الشجون .والثالث ان ينتزع الشجون بما يحل بدلا منها ولأن الشجون تتمددعلى طول ذات الأنسان وعلى مدى عرضها وارتفاعها لذا لابد من الحلول الكامل لذات اخرى في هذه الذات المشجونة وهنا لامجال يبقى لتلك الشجون ولن يكون ذلك سوى بالحب الذي لافواصل فيه ولا مسامات اختلاف وحينها تكون شرائط الغواية قد استكملت وجودها وكان لذلك المبحوث عنه ان يبلغ مقام الغواية الذي ماهو الا رد الفعل الذي يكافئ ذلك السحر لتلك المملكة الأنثوية العجيبة والغريبة الأطوار والتي حوت استثنائيات انثى مالايطيقه الا سلاطين الأحساس وملوك على عروش الحب أسيادا .
الخاتمة :
وأذ اطالع نصها العجيب ((أبحث عن رجل)) احسست كأن شعر رسي يقف وجلدي يقشعر فلم تكن مفردات القصيدة في حدود تصور الذهن بل كانت مخترقة لحواسي فكانت اسرع بسحرها من تصفيات مدركاتي ففيهما وقف شعر الرأس تزامنا مع خيال الرأس الذي نبت عليه واقشعر الجلد تزامنا مع عروقه التي تحمل الدم لحواسه . فكان نصها بمثابة عملية اختراق وانفجار ينسف جبالا من التأني يهز قلب السكون في قلب المتلقي فيلقي بصخوره مرغما لأقرب واد مذهولا مأخوذا بسحر الظهور الأنثوي المخترق لحدود مرآة النساء التي من خلالها يتصور سحرهن في وجدانه .فكان هذا النص بمثابة زلزال يخرج مكنونات الدهشة من أعماقي وخالط احساسه احساسي فأغرقني وكدت أموت من هول المفاجأة فهرعت الى الورق ودونت هذا التحليل الذي يجسد خلاصة لما درسته من نافذتي وأنى لنافذة أن تصف حال مملكة أشتعلت بألأنوثة واضطرم فيها السحر جنونا يمتزج منه الصخب بالسكون.وفي ذات الوقت أرى هذا النص عبارة عن انفجار هائل الصورة لم تضع لها كاتبة النص حدا تقف فيه بل اطلقت لها العنان لتستحوذ على كل المشهد قد يبدو للبعض أنانية في الحضور والظهور ومن عجائب احكامها وتحكمها لظهورها انها هي التي رسمت مسارات اقتحام لتلك المملكة الأنثوية فلم تترك للقادم اليها من خيارات يختارها هو لولوجها لا كما هي حين حددت طرقاتها ، لأنه عبر سلوكه هذه المسارات فحتى لو أنتصر ونجح في مهامه فلن يشعر بالفخر لأنها هي التي دلته على طرقاتها وبذلك أستخدمت ذكاءهالتنتصر عليه فعلا وأن كان يبدو له هو المنتصر وذلك سر مليكات الأبداع فهن يعشن انتصارا حقيقيا وأن كان يبدو للآخرين ضعفا او تقهقرا. وابدع ألابداع ان يعيش المرء حالة من القوة في مشهد ضعف وان يعيش حالة الأنتصار في مشهد القهر وأبدع من ذلك حين يبحث المرء عن غواية تكافئ قوته التي فاضت بالسحر وطغت في كفة حضورها فبحثت عن جانب للتحدي لتتوازن في الظهور وبذا لايبقى فيها ميل نحو انانية متطرفة تميل الى جهة وتغادر أخرى. امنياتي لكاتبة النص شاعرة الياسمين الدكتورة منى ضيا بكل توفيق وهذا هو نصها الذي كتبت فيه دراستي النقدية :
((أبحث عن رجل ))
أبحث عن رجل يغويني
ينثر الحب غنائم في عريني
رجل يكون كسخط الرعد
في عتمة كانون
كصاعقة يجذبه التيار
فيضرم الجمر في كهف السنين
كأعصار ينقض
في هجعة الليل
يلتف حولي
يقتلع جنوني
كفيض أنهار
كطوفان بحور
ويجرف ماشاء
من صخب وسكون
يحطم الاقفال ، يصدع
صخوري
يتمرد وينتزع شجوني
ويغويني .