المركز التاسع مكرر أسراء عبوشي ... فلسطين عن قصتها نافذة الحياة
نافذة الحياة
إنها نافذة تطل على الحياة , لكن ما جدواها وقد أرهقته الأوجاع , وأخذت الروح للنهاية , تطوف في آخر المشوار الأماني حول الرجاء داعية بالرحمة , ملبية لابتلاء القدر بالرضا , كل شيء يتلخص برحمة رب السماء ... في النهاية .
حسان شاب في العقد الثالث من عمره , أصيب بذلك المرض الذي يفتك الخلايا , ولا يأخذ الروح الا بعد رحلة علاج منهكة , يُرى فيها الموت مراراً , يلوح من بعيد , فلا هو آت ولا هو مختفيٍ .
اقتصرت الأقدار ما حاكته الأحلام بلحظة , حينما أخبره الطبيب انه مصاب بالسرطان , وليس أمامه إلا الخضوع لعلاج طويل في المستشفى , صفعة ضربت خطوات اجتهاده التي كان سيكللها عما قريب بالنجاح بمشروعة الذي أمضى لأجله سنوات من التعب والجهد ,
فجأة لا يريد إلا الشفاء , ولا يربط حياته إلا برحمة الله التي يراها تطل عليه كلما اقترب منه , في لحظات الشدة لا يشفي إلا قول ( يا رب ) , امسك بالمصحف وأخذ يقرأ في آياته ليطمئن قلبه , ويريح باله المجهد من التفكير بالعملية المرتقبة التي حذره الأطباء من تدني نسبة نجاحها , لكن لا خيار عليه أن يجازف لينهي أوجاعه , في كلا الحالتين سيتخلص من الآلام , سواء بالنجاة أو بالموت .
نظر لجواره فرأى أمه تضع رأسها على جانب سريره , مغمضة العينان , هي لا تنام أعياها الحزن على إبنها , ومهما تجلدت بالصبر الجميل لا تستطيع أن تخفي تفطر قلبها على إبنها , مطلوب منها رغم قلقها أن تظهر له ابتسامتها ولو خالجتها دموع العيون , عجزها على مد يد العون لأبن ساعدته ليكون وليشتد وليصبح رجلاً , لكنه الآن لا شيء أمامها , لا شيء يمكن أن تفعله لتدفع عنه الموت إن آتاه , ليت المرض يستشيرنا حين يأتي ,, منّ يختار ؟ أم تموت كل لحظه وهي ترى إبنها يتعذب أمامها , ويخاف الموت , أم يختارها ويترك إبنها يكمل أحلامه بالحياة , ينال ما نالت من زواج وإنجاب .
وكم يؤلمها الخوف بعينيه , ما زال الخوف عالق من أثر المفاجأة , يطرق مسامعه خبر مرضه فيهز عالمه , قبل أن يسقطه طريح الإستلام , فكيف بين يوم وليلة يستوعب أن بداخل جسده الفتيّ مرض يفتك بخلاياه , وخوف من الموت فشتان بين ضمة صدر الأم وضمة موحشة بالقبر , يبعد نظره عن وجه أمه الذي يجد الأمان بتقاسيمه الطيبة , وينظر للنافذه حيث ضوء الفجر يأتي من بعيد , معلناً ميلاد يومٍ آخر , توالت الأيام يحمل روتينها الأرهاق لجسده , أيام متشابهه طويلة فر منها الأمل , وكأن النور القادم يستثني البعض .
ناداها : أمي
أجابت مسرعة واللهفة تشع من عينيها : نعم ما بك يا بني
: نمتِ ؟
: لا إنا معك يا عمري ؟
: أعرف أني عمرك , وأنا حزين إن عمرك فيّ قصير , ستنتهين معي وإن أكملت حياتكِ , ما يحزننا برحيلي أنتِ يا أماه , يحزنني ألمك على فراقي , فعديني أن لا تبكي .
ردت والدموع تنهمر من عينيها : بعد الشر عنك أنا ولا أنت إبني .
: بل أنا لأسبقكِ وأبني لكِ قصر الحمد .
: هناك أمل أشعر أن العملية ستنجح . وتتعافى وتبقى لجواري ولن تتركني , فقط قل يا رب .
: يا رب
: نم يا بني لا ترهق نفسك إني أودعتك للرحمن .
يكتمل دخول نور الشمس ليملأ الغرفة اشراقاً , يتلفت بأركان المكان وكأنه يودع النور , ولا ينتظر القادم منه .
آتى موعد العملية , دخل عليه الممرض ليجري له آخر الفحوصات ويجهزه للعملية وقد كان ممسك بالمصحف بين يديه , قال لأمه : أكملي عني هذا الجزء من القرآن الكريم , فأن فارقت روحي جسدي سأكون قد أنهبت ما بدأت , لا أريد أم باكيه تسقي ابتلاء الله بالعجز , بل أريدها باسمه تودعني ببسمة كما استقبلتني عند قدومي للحياة ببسمة , قد أخاف من الموت والقبر والحساب , أشغلتني الحياة عن تمام العبادة , لا نفكر بالطاعات إلا عندما لا يصبح معنا وقت , كل جهدي زائل , لكني كسبت شيء واحد هو رضاكِ يا أمي .
: الله يرضى عليك وتخرج لي بالسلامة .
نظر للنافذة ولجدران المستشفى وللمريض الذي بجواره , نظر لكل شيء بتمعن قد تكون آخر ما يراه بالحياة من صور
ثم قام الممرض بنقله لغرفة العمليات , وأمه تجري خلف السرير الملقى عليه , وتقول : بالسلامة يا بني يا رب , الله يرضى عليك ويرجعك لي بالسلامة .
وصلت لمدخل غرف العمليات وهنا غاب عن الرؤيا , فحضنت المصحف وانهارت على الأرض , وبعد أن استعادت وعيها فتحت المصحف واكملت ما بدأ حسّان , والدموع تتساقط على الصفحات , وتبلل الآيات الشريفة , أنهت الجزء الذي بدأ فيه حسّان , ثم دعت : لا تحملني ما لا طاقة لي به يا رب , سيخرج إبني سالم وسيتعافى هذه ثقتي بالرحمن , فمنذ أن رحل والده وأنا أضمه لحضني وبأنفاسه كل الحياة , عشت له وعشت به , وهو ليس ابن إنه روحي التي تسري بجسدي , فيا رب لا تحرمني منه .
مر الوقت وكأنه عجز عن المسير , ما بال الدقائق تصبح ساعات ؟ّ! .
هل تجمدت ساعة الزمن ؟ !.
وبعد إنتظار طويل رأت من بعيد عبر نافذة باب غرفة العمليات الطبيب يخطوا نحوها , وأسارير الفرح بادية على وجهه , في ملامحة رسالة إطمئنان , فتح الباب لكنها غدت وكأنها مخدرة أمامه , تلجم لسانها تماما , فقال الطبيب : الحمد لله حققنا اليوم إنجاز طبي هائل بنجاح هذه العملية المعقدة الصعبة .
سجدت الأم شاكرة لله , ثم لحقت الطبيب تسأله عن وضع إبنها ومتى ستراه , شيء من الإرادة الحياة جذبه ليعيش ويرفض الموت , قد يكون أمه بدعائها وحاجتها له , وقد يكون نور نافذة الحياة ما زال يغريه بالمزيد , لكن فوق كل هذا وذاك ( رحمة الرحمن )