رمــــاد الأرصــــفة
"""""""""""""""""""
تدور بين السيارات التي توقفت عند إشارة المرور ..تحمل بين ذراعيها المعروقين بضاعتها ..صندوق خشبي باهت اللون تطفو فوقه سطحه ثمة علب صغيرة من العلكة وأعواد البخور ،،يتأرجح الصندوق فوق صدرها الضامر مربوطا بحبل يطوق رقبتها النحيلة ..بالكاد تميز وجوه الأشخاص الراكبين في سياراتهم ..تنادي بصوت ُمتعب ،تمد كفها المرتعش وفوق تجاعيد صفحة راحتها تتوسد علكة مغلفة بالسليفان ،تتوسل علّ أحد ما يشتري منها ،لا أحد ينصت لعويلها ،تستجدي دموع المارة والغائب الذي ترك آثار أصابعه فوق خدها ،تجلس على بياض الأرصفة تترنم مستحضرة دوامات حزنها الصامت ..جسدها السبعيني يئن من الوحدة تحت ظهيرة من لهيب شمس محرقة ..تحلم بمواسم غلّفتها حقائب النسيان ..
بحّ صوتها وأبتلع ىعمرها أساه ..تقتفي أثر فتى طردها في ليلة غاب فيها قمر توارى خلف ظلال النسيان ..لم تعد سّيدة لها متكئاً أو ملاذ امين ..تمسك ببقايا قلب يجلس على حد السكين يرتجف مثل شلاّل حزين ..كلما داهمتها ذكرى بيتها ودفء أحفادها وهي تحتضنهم ،تشهق وتلوذ بالصمت واضعة رأسها بين ركبتيها ..آه من تلك الصفعة التي دوّت على وجهها ..كلما حاولت نسيانها ..تنثبق كنجمة حرون تمزق حجب الظلام فتخطف الابصار عنوة ..
وهي تغادر بيتها كانت تحلم بمأوى يستر عري الليل وبقايا صبر عقيم .. مضت ليلتها في هجير المتاهات تتلوى مع الصمت تحت غطاء الليل تبحث في ذاكرتها عن قريب لها تأوي إليه ..تناسلَ النسيان وأتسعت دائرة الألم ..وصوت زوجة ابنها يطرق ذاكرتها كناقوس يصدح في زوايا الأرصفة والجدران الباهتة :
_امّا أنا في البيت أو أمك ..اختر من ستبقى هنا ..اختار هو أن ترحل أمه.. وعندما عاتبته ..صرخ بوجهها ولمّا احتدم النقاش ، بصقت في وجهه.قائلة :
_ياخسارة تربيتي فيك ..صفعها ووضع كفيه بظهرها ودفعها خارج الدار ..ناداها شاب يقود سيارة فارهة أيقظها من سباتها :
_ياحاجّة ..تعالي من فضلك ..اقتربتْ منه ..وضعَ في كفها ورقة نقدية وأشاح بوجهه عنها قائلاً :
_ليتَ أمي حيّة تُرزق لأبرّها ..ماتت وأنا في سن الطفولة ..همسَ له الرجل الجالس خلف مقعده :
_أحسنت ياولدي ..وضعت المرأة العجوز النقود في جيبها وعيناها تفيضان بالدموع ..وانطلقت إلى الطابور المقابل للسيارات المتوقفة وهدير محركاتها يحتدم كالعصف يمزق صمت الظهيرة المتهالكة
كل يوم تتباعد المسافات والساعات والأيام تتقاطع مع صراخ اللاجدوى ..
_آه يا أراجيح الطفولة وحقائب المدرسة و"سندويتش" الفطائر ولمسة الحنان على رأسه وأنا أوصله للمدرسة ..يا لدمعي المراق في مرارة أيام سقمك وأنت طريح الفراش بين الموت والحياة .. همستْ مع نفسها وتراجعت إلى الخلف لتتحاشى الاصطدام مع السيارات الصائلة عند اشتعال الضوء الأخضر لإشارة المرور ..ذات نهار ..اقتربت كعادتها من سيارة تحاذي الرصيف القريب منها ..
مدّت يدها حاملة علبة العلكة وهي تقول :
--لله ياولدي.. اشترِ العلكة مني ..
_الله يعطيك ياحاجّة ..منذ أربع سنوات وأنتِ هنا ..أما آن لكِ أن تستريحين ؟.
_لا راحة في الدنيا ياولدي .
_خذي ياحاجّة ..أنت امرأة طيبة ..أنقدها الفلوس وتحركت سيارته إلى الأمام ..اقتربت من السيارة التي خلفها ..مدت يدها قائلة :
__ساعدني ياولدي ..اشترِ العلكة ..أو البخور مني ..اصطدمت عيناها بعينيه بغتة ..انكمشت أصابعها على العلكة وتراجعت إلى الوراء ..نظر إليها بعينين زائغتين ..أصابها ذهول عميق ..استفاقت من سبات الصمت وهدرت أمواج الدخان في قاع شيخوختها ..انهمرت شلاّلات الحزن فوق مفازات الخّيبة عاودها الوجع ونازعتها الشهقة المنفلتة من زمام الحكمة ..سمعته يصيح :
_أمي ...أمي ..ضجّ الجالسون في المقاعد التي تشغلها أجساد فتية أربعة..صاح أحدهم مندهشا :
_أ هذه أمك ...لا أكاد اصدق ذلك ..قبل أن يفتح الباب ليترجل من سيارته الفاخرة ..لاذت بين السيارات محاولة أن تختفي عنه وعن أنظار زملائه..أسرع يركض بين السيارات يبحث عنها ..ترجّل أصحابه والحيرة تطوقهم ..بعد أن تعبَ من البحث عنها ..عاد منهكاً يلهث نحو سيارته وهو يضرب باب السيارة بقبضته.. يشهق باكياً بحرقة .