على سبيل .. غريبة وعبثية الحسابات
إنقضّت العقبان على الخديجِ المخبوُءِ في خرابها السّري ، فحطمتْ عويل الصمت بضرباتِ مناقيرها ، وحرّكتْ الزمن الراكد في داخلها برفيفِ أجنحتها ، شَمّتْ للمرّةِ الأوّلى جيّف العقبان في دوائرٍ بطيئةٍ ، رباعياً في حلقةِ الأبديّة .
أخافُ من ناقوس الزمن أن يدق على حينِ غرةٍ ، والنهارُ يبدأ ينسلخ شيئاً فشيئاً داخلاً في العتمة ، كلّما لامستُها غرقتُ في بياضٍ بين العدم والكفن ، كأنها النيران الخمس الهائمة المتحركة في رقصٍ خفيّ ؟
لا أعرف طبيعة الهواجس التي انتابتني حينها ، لمْ أكن راغبة في حملها معي إلى القبر ، أو الغوص بها إلى أعماق البحار !
أياً كان نوعها ، الموت ، الحياة ، والحّب ، ليست فقط هي ما يحرق حاضري ، ولكنّها أيضاً ما يستمرُ فيّ من رماد ، حتّى بعد خمود حرائق الموت .
صحيح أنّهم نسجوا خيوط العنكبوت ، لكنّه يتردّد فيّ ، نَفسَهُ في صدى نفسي ، لابدّ أن أستمر ، وأن أتخلّص من مشانق أحلامي .
أطرّقَ كاظماً غيظه ، هدّأ أعصابه التي بدأت تتشنْج ، ظلّ ينصتُ إلى فيّض زبد عينيها وذهنهُ شارد !
لمْ يتمكّنا مِن الكلام خلال الأيّام الثّلاثة التي تبقت ، خشيةً منها أو خجلاً أو مجرّد غباء منهُ ؟
لأنّها مِن غيرِ ضجيّجٍ ، قطعاً لا يحدث للإنسان ما يستحقهُ ، بل ما يشبههُ ، فلِمَ الألم ؟
ما دامت تلك النهايات تشبهنا ، حتّى لكأنّما الموت يجعلنا أجمل ، فلِمَ الرقص بدورانٍ كدرويشٍ يستلهم حضوره من رفع يديه بالابتهالات ، كيان روحي ، بجسد مادي ودماغ ، والمشاهد بوابة الروحانيّة على إيقاع دفٍ وناي ؟
من أنا ، ما هذا الصوت الذي في رأسي ، من أنت ؟
نضبت الكلمات ، ولم يعد هناك شيء يمكن أن يتحدثا عنه ، إلّا من هيجان بعض الأفكّار المحمّومة ، ينبعثُ منهما وكأنّه ضجّة روحهما المضطربة .
كانت تعرف أنّها مغامرة تخوضها ميؤوس من تواصلها ، اعتبرت ذلك من باب طبع الرّجل الذي يحتكر المال والجاه ، والمرأة والسّلطة ، وعطرها !
هل هي في عتمتها ؟
أم أنّها ترى دلافين تتراقص وتصفق في أعماقها ، فبهرتْ ونسيتْ بعضها تتدافع ببعضها ، لتزودها بسلسةِ طقوسٍ لاتّباعها !
فالإنسان في عتمتهِ لا يراهُ أحد ، ولا يرى أحداً !
انزلقتْ دون أن تعطي انطباعاً بأنّها لاهثة ، وحدها كانت الكلمات تلهث داخلها ، وبقايا عطر اختزنه جسدها .
أصبح خائفاً مرّت الأوّلى تّتدحرّج بسلامٍ ، من حيثُ يدري أو لا يدري ؟
تصارحا في الأمر ، لمْ يمرّ ظلّها عبرّ نافذة عقله ، مرّ القط الأسود ، وأطفأ الشمعة بلهيبِ عينيه !
شعر أنّ بقايا منهُ يلتفُ حول برج ٍشاهقٍ ، كرمزٍٍ ذكوريٍ خفي ، أو كشجرةٍ في الأرضِ بامتدادها الخاوي ، وتنتصبُ أمامهُ شبكة ٌأفقيّة بامتدادها اللانهائي ، وكأنّ عليهِ أن يقفز فوقها نحو الطرف الآخر ، والذي يبدو أُفقهُ جبلياً وعراً ، وهو دون نصفه السفلي !
سمع صرفقة باب روحه ، انتابه سؤال مجنون ، ولكنّه سرعان ما دفنهُ ، لكي لا يأكلهُ شجنهُ .
ما زال يربكني في كلّ حالاته ، حتّى عندما يخلع صمته ، ويلبس صوتي وكلماتي المبلّلة .
قفزة مهمّة عملاقة في بحر ذاته ، حرّكتْ رأسه ، فواصل السّكوت مبتسماً بتخابث ، فإنّ الطيور في السماء المغيّمة وسُحَبها المتلبدّة وزوابعها المنتظرة ، يعسر عليها أن تحلّق ؟
ثمّة شيء مّا ، حاولَ أن يحدّده ، خاف من تحديده على نحوٍ جليّ دقيق ، خاف من نفسه لا منها ، هذا الاعتلال الذي لا علاج له !
ربمّا من شّدة إهمال هذه الذكريات مدّة طويلة خارج الذاكرة ، انتهت إلى التلاشي وانطفاء شكلها وتحلّل قوقعتها الصغيرة بين انثناءاتها الخفيّة ، كي ينصتا معاً إلى صخب الصّمت بين عاشقين سابقين ، أو هكذا تخيل لهما حين ساعة ضعف مرّا بها
أليس الحب إلّا جنوناً ينفذ إلى القلب وقت ما يشاء ، وينسحبُ وقت ما يشاء
ربمّا انجذبت إليه في لحظةٍ ، كانت فيها رائحة الملائكة تاركةً بعض الرضاب أحيانا ، وفي أحيانٍ أخرى والأكثر حضوراً .. عطر الشياطين ؟
تركتُ ظلّي في عتمة ذاتهِ يحترق ، ولم ألبسهُ الكفن ، علني أجدّ ذاتي !
كانت تعالج المسألة التي بينهما بعقلانيّة أذهلتهُ ، إمرأة ذكية ، شرحت لهُ مشاعره المتضاربة ، وفسّرتْ في الوقت نفسه أنّها ربمّا تركت ذاتها في مخاتلة بعيدة عن عقلها ، لتتعمّق فكّرة التلازم بين الملكيّة والسّلطة وأجساد النساء !
لم تكن تجد أين ترتّب أولويات حياتها :
تحت سماءٍ مفتوحةٍ وفي هواءٍ محظورٍ عن الفراشاتِ ، مثقلةٍ بذهبِ النذور الذي علّق على جسدها خلال الرحلة اللامتناهية التي أوصلتها من تخومِ أطرافِ الغابة إلى مملكة سأمه الشاسعة المختلجة ، أم في بقايا حياةٍ لا أمل آخر للخلاص فيها سوى الصلوات السريّة ؟
هل أنا من أتباع ( زينون ) ؟
كنتُ أتساءل دائماً هل أنا هنا ، أنا هو أنا وحدي الضحية ؟
وأنّ نفسي غرفة زجاجية تشف عن ألمٍ لا نهاية له مشبع بالشفافة تثير ضجة ناعمة في صراعٍ مستديمٍ مع الموت القريب ، وأنا أبحثُ في داخلي عن بقايا ابتسامة خجولة أذق فيها طعم السعادة يوماً !
كنتُ في لحظة حضوري كمّا حضر وأنا في في لحظة غيابي ، حيث كان كأس التردّد في فمي أمرُّ مذاقاً من السمّ القاتل !
يا اااااااااااااااااالله
لم أكنْ في حاجة لوضع القطن في أذنيّ لتفادي صمت صرخاته ، رأيتُ الكلمات تتسارع متلاحقة الإيقاع برتمٍٍ أشبه بناقوسِ الكنيسة ،وكريشة ( بيكاسو ) ترسمُ أقداراً مجنونة وغريبة !
استنتجتُ أنّه رجل غريب الأطوار ، لا يعرف كيف يتدبّر أمر حّبٍ !.
كان يمكن أن يُخيلَ للمرءِ أنّه يشاهد اندفاع كوكبةٍ من ثيرانٍ وحشيةٍ ، كانت حوافرها تّتلف كلّ شيء لدى مرورها في جلجلةٍ صافية ، كأنّها زلزالٌ عاتٌ من أكثر الحيوات إجداباً
لا أحّبُ موت الشفقة ؟
تجمّدت الكلمات في حلقي وهي مُنغرسة بعنفٍ في عمق مصيبتي التي سكنتني مدّة بآلامها ، أعتقد أنّي أنا من أوقفها ، ونشفَ فجأةً كلّ شيء فيّ ، ولكن الظلّ الذي ما زلتُ أحسّ به ، كان ما يزال يبدو من وراء الزجاج حيناً ، وحيناً آخر من وراء شقوق الحيطان والمنافذ التي لا تٌرى إلّا ثقوبها المتعدّدة ، كان يدخل بدون نعشٍ وسط سيل جارف من هجرةٍ نورانية فيها هذيان الحمى ، وكنتُ فيها وفيّة للغائب ، أجمع الحواسّ المخبأة فيّ
لا أدري .. !
لماذا ما زلتُ على يقينٍ من أنّهُ ما يزالُ حياً ؟ .
زينون : فيلسوف يوناني مؤسّس الفلسفة الرواقيّة