.. آهٍ من هذه الغُربة .. طالت ياأمي .. تُعمِّقُها الأيام، والشوق يقتلني .. أجترُّكِ، أُطْبقُ عليك جفوني فأراكي .. أتلمَّسُك، ألثم وجنتيكِ، ويدك؛ فتفتحين جناحيك وتضمِّيني، أختبئ في صدرك .. ماعاد الصغيرُ صغيرًا ياأمي .. لاأدري ربما ترينه كذلك، لكنه صار عُرجونًا قديمًا كالحًا لوَّحته شمسُ البعاد .. كم يهفو أن يضع رأسه على صدرك، وتمسحين بيدك الحانية عليها، وتهدهديه؛ فيغفو .. كم من المرَّاتِ فعلها؛ وأنت لاتتململين .. كم جاءكِ وقد ضاقت به السُبُل، فيلتقط جهاز استشعارك ـ الذى لايخطئ أبدًا ـ مابه؛ فتُبادرينهُ :
ــ مالك ياولدي .. لاتُخفي عنِّي شيئًا .. تفضحُكَ عيونُك
من فوري أضعُ رأسي على رِجْلك، أتكومُ بجانبك، وأُغمضُ عينيَّ، ألتمسُ يدك .. تُجْرين علىَّ طقوسك ـ رُقْيتك التُراثية ـ تقبضين قبضةَ مِلحٍ في كفكِ، وتمُرِّين بها على جسدي، من رأسي حتى قدمي، تتمتمين، وتبسملين، وتحوقلين .. تُصلِّينَ على سيدِ المُرسلين، ثم تتعقبين بملحك العيونَ الحاسدةَ عينًا عينا، وتختتمين بجُملتِكِ المأثورةِ :
ــ .. رقيتك من كل مَنْ نظروك ولا صلُّوا على سيدنا النبي
وتعمدين إلى إناء ماءٍ؛ فتُلقين فيه المِلحَ وأنت تشهقين، وترددين :
ــ إبردي ياعين..
أقوم خفيفًا .. مُحلِّقًا .." كأنما الفتى نَشِطَ من عِقال"
آهٍ ياأمي .. طال البعاد، وثَقُلتْ خُطوتى.. أتُراكِ مازلت تريني صغيرك .. أم ستنكِرُنى عيناك حين تراني .. أعلم ُ أن قلبَكِ لن يُخطِئَني ..
.. يدٌ رحيمةٌ تربت على كتفي، تنتقل فتمسح رأسي المُسندةَ إلى الجدار .. أنتبه .. يأتيني صوته هامسًا :
ــ هيَّا يا أبتي .. غادر الزُوَّار .. لم يعد بالمقابر سوانا