عجيبٌ أمرُ "البركةِ"، إذا لم تكنْ فلا كان شيءٌ بعدها !!
ولذا ترى، وتسمع، كثيراً من الناس يدْعون بالبركة، ويطلبون من الله أن يرزقهم بها، ويجعلَها محلَّ أموالهم وأولادهم وأزواجهم وطعامهم وشرابهم وجميع ممتلكاتهم.
والفقيرُ يستغني بها عن ما يفتقده من الزيادة والرخاء، ويقول لنفسه أو لغيره من المحدثين: (المهم: "البركة") !!
فالبركة هي أهمُّ ما يحصل عليه المرءُ في دنياه، وإذا غابت، أو اختفت، غاب معها الرِّضا، واختفت السعادة، وصارَ كل شيءٍ هباءً وفناءً.
ولعلَّ ما يفتقدُ الناسُ، في هذا الزمن، هي "البركة"؛ فإنك تلقى كثيراً من الأفراد يملكون أشياءً كثيرةً، ويتمرَّغون في نِعمٍ لا تُعَدُ ولا تُحْصى، ولكنهم يشكون من القلق، وانعدام الطمأنينة، وغياب الأمن الداخلي، والسلام النفسي، ولا يهدأون ساعةً من ليلٍ أو نهارٍ.
وتسمع من يقول متحسِّراً:
أين أيام زمان.. أيام "البركة"؟!
ومن هذه الأيام، أيامٌ تحكي عنها الكاتبة الروائية "رضوى عاشور"، في روايتها الجميلة: "أطياف"؛ حيث تقول وهي تصف (الحالة الاقتصادية والاجتماعية بين 1904 و1906)، أنَّ "الزبونَ كان يُعْطي الأجْرَةَ للحلاَّقِ، (وهي عشرة خُردة تساوي أجزاءً قليلة من القِرْش صاغ)، فيأخذُها منه ويُعطيها دون أن يراها حتى لو كانت يدُ الزبون فارغةً. لذلك كان اللهُ يُباركُ لهم في حياتهم".
نعم، كان اللهُ يباركُ لهم في حياتهم، ليس في المالِ فقط، بل وفي الصِّحَّة كذلك؛ ففي نفس الرواية تحكي "رضوى عاشور" على لسان جدِّها أنه مرضَ يوْما، حين كان صغيراً، بالحُمَّى، وبعد محاولاتٍ من والدَتِهِ وبعضِ الجارات لعلاجه، ولم تُجْدِ، حملتْهُ دايتُهُ إلى ميْضةِ الجامعِ وألْقتْ به فيها، ثم نشلتْهُ منه ولفَّتْهُ في البطانية، وعادت به إلى البيت، "وكانت ميْضةُ الجامع تُستعملُ للوضوء قبل ظهور الحنفيات وهي عبارة عن بِرْكَةٍ يُبدِّلونَ ماءَها مرةً في الأسبوع. ولم يكن ماؤُها نظيفاً لأنَّ المصلين يتوضأون فيها وبعْضهم غير نظيف"... ومع ذلك شفِيَ الجَدُّ من الحُمَّى ولم يمْرضْ بعد ذلك مطلقاً !!
إنها "البركة" مرة أخرى، وهي التي يحتاجُ إليها الناسُ، اليوم، لو يعلمون.