كانت نقرات العصا تستبق خطواتها المتأنّية ، تتحسّس الطّريق على مهل. تنبعث رائحة العفن
من النّفق يخزها البعوض فتتحمّل ويتدافع الذّباب على وجهها ، وكأنّ الأقدار لم تكتف لفقدها
بصرها ليحاول هذا الذّباب المتواقح ،ثقب عينيها .
تتقدّم في حلكة المبصرين ، ينير ظلمة عينيها ، لحظات ستسرقها من الظّلم ،يحفّزها الشّوق
إلى اللحظة و يصبّرها على تحمّل عناء المسيرعبر هذا النّفق الموحل ، يكسوه إخضرار لزج
بفعل الرّطوبة ، وإن كانت الرّائحة تخز شعيرات أنفها ،غير أنّها استلذّتها ، لم يكن في التذاذ القرف
غرابة ، فللمفارقة تفسيرها .
كان لهذا النفق العفن ذو الرّائحة المقرفة علاقة بذكرى عودة الرّوح إليها ، يوم ضمّته إلى
صدرها و ألقمته ثديها الذي حرموه منه ظلما، كان هزيلا نحيلا بإلكاد يملك الجهد ليبكي كالرّضع
كان صياحه أوّل يوم بعد فراق شهرين ،شبيه بمواء قطّ يحتضر ، غمرته كل شوقها المدفون
و أمومتها المسفوحة ...
تدحرجت دمعة وتذكرت كيف أرعد والدها وأزبد، ــ : "ما دام طلّقك ليتزوج أخرى أغرته
ليأخذ إبنه معه وليربّه هو وال ... " حاولت إقناعه أنّ الجنين الذي في بطنها لصيق بروحها
و لا تستطيع التفريط فيه حتى لأبيه ،ولكن أباها كان عنيدا ، والأدهى أن طليقها رفض تحمل
مسؤولية الجنين وقال بأنه سيكون حديث الزواج و لن يقبله فعروسه لن تربي إبن غيرها،
ظنت نور حينها أن والدها سيقبل بحفيده ،ولكنه تعنت و أقسم أن يعطيه لسيدة لا تنجب ، هكذا قرر ،
لن يربّي إبن خائن في بيته، سيأخذه إلى عائلة تتبنّاه حال ولادته ...
إنتزعوا الرّضيع من حضنها ولم يكد يلقف حلمته ،وهي تندب و تصرخ وتنتحب و تتوسل
ولا من مجيب .
لم يتعب والدها نفسه لإيجاد عائلة كريمة تتبنى حفيده ، بل أودعه مباشرة إلى ملجإ للأيتام حيث
كانت تعمل إبنة أخته يسرى كمنظفة .
علمت يسرى بما حدث لنور بعد انتزاع إبنها منها ،وكيف اعتكفت في حجرتها تبكي ليلا نهارا
حتى عميت ومع ذلك ظلّ أبوها متحجّر القلب، جاءتها ذات مساء وأسرّت لها بما أثلج صدرها
وأعاد الأمل و حب الحياة إلى قلبها، إتّفقتا على أن تتقابلا يوميا في النفق الفاصل بين حديقة بيتهم
وبين الملجإ، قرّرت يسرى أن تأخذ الرّضيع الذي كنّي صابر إلى النّفق ساعة الظّهيرة حيث
لن يتفطن إلى ذلك أحد ، بينما تلتقيها نور من الطّرف المقابل من النّفق ، هكذا تمكّنها من إرضاعه
و احتضانه لمدّة ساعة يوميّا، وهكذا كان العمل منذ أسبوع عرفت فيه أرقى لحظات السّعادة...
تنهّدت حين استحظرت تلك الذّكريات ، أطرقت فجأة ، إنّه صوت بكاء عزيزها صابر،
إشتاق لنهده و حضنه ،صاحت نور ، لا تبك يا روحي قادمة ياعمري ،وأمسكت ثديها بعد أن فاض
حليبه