( طبطبة )
عاد إلى منزله متأخراً , الأنوار كلها مطفأة باستثناء ذلك الضوء الخافت الصادر من غرفة ابنته , من الواضح أن زوجته قد استسلمت للنوم وتركت الفتاة تشاهد أفلام الكارتون كالمعتاد , تهللت أسارير ابنته لرؤيته وأسرعت ترتمي في حضنه بقوة , ثم سألته بلهفة عما إذا كان قد أحضر معه تلك الحلوى التي تحبها أم لا , هز رأسه نفياً وتعلل بالنسيان فنظرت إليه نظرة عتاب صامتة , ربت على وجهها بحنان ووعدها بأن يشتري لها غداً كل ما تطلب .
استلقى بجوارها على السرير وقد أنهكه التعب وامتلأت نفسه بالحزن بعد ذلك اليوم الشاق الذي قضاه مع والده بالمشفى , كان من الصعب عليه أن يرى حالة والده الصحية وهي تسوء يوماً بعد آخر كشمعة يخفت ضوئها تدريجياً , الشعور العارم بالألم يدمي قلبه كلما تذكر معاناة والده وتأوهاته ونظراته الزائغة أثناء جلسة العلاج , ويخفق قلبه بقوة عندما يستعيد تلك اللحظة التي رأى فيها دموع والده للمرة الأولى في حياته , كان وقع ذلك المشهد غريباً على نفسه , فبالرغم من شعوره بالحزن والإشفاق على والده المريض المسن , إلا أن جزءاً ما بعقله كان يرفض أن يصدق ما يرى , ويأبى ذلك الطفل الكامن بداخله أن يستوعب حقيقة أن والده قد صار ضعيفاً إلى تلك الدرجة , كان صعباً عليه أن يزحزح تلك الصورة التي يحتفظ بها لوالده في خياله كرمز للقوة ومصدر دائم للثقة والاطمئنان , وأن يفهم أن والده قد تحول فجأة من عائل للأسرة يتولى جميع أمورها إلى عالة عليها لا يقوى حتى على الاهتمام بشئونه الخاصة بمفرده .
شعر بالسخط عندما تذكر موقف إخوته المتخاذل من مرض والدهم , وكيف تنصلوا تدريجياً من تحمل المسئولية وتركوها كلها له ولم يتفهموا أن لديه حياته الخاصة ومشاغله مثلهم تماماً , ليصبح هو المسئول الأول عن رعاية والده وحضور جلسات العلاج معه وزيارته بصفة يومية لتلبية طلباته , كان يشعر أحياناً بأن الحمل ثقيل , وبأنه لا يمتلك القدرة على الاعتناء بشخص ما بتلك الصورة المكثفة , ربما إنه لم يتعود من قبل على العطاء كما اعتاد على الأخذ وخصوصاً فيما يتعلق بعلاقته بوالده , ولم يكن من السهل أبداً أن يتقبل ذلك التحول الجذري في العلاقة لاسيما مع صعوبة المهمة .
باغتته آلام ظهره فجأة , كان قد اعتاد على مثل تلك الآلام مؤخرا , وبالتحديد منذ أن فقد والده القدرة على صعود درجات السلم بمفرده مما كان يضطره لحمله بين يديه كطفل رضيع , الوجع يشتد هذه المرة بصورة غير مسبوقة فيظهر الألم على ملامحه ويبدأ في التأوه بصوت خفيض , يعلو مستوى الآلام تدريجياً فوق قدرته على الكتمان والصبر , فيعلو صوت تأوهاته .
التفتت إليه ابنته التي كانت مستغرقة في مشاهدة أفلام الكارتون بشغف , قطبت حاجبيها الصغيرين لمرآه بتلك الصورة وظهرت في عينها نظرة إشفاق ممتزج بالقلق , ثم بدأت في الاقتراب منه ببطء..
-انت تعبان يا بابا ؟...سألته بصوت حزين..
-أه...شوية. رد عليها بصعوبة .
وقفت تتأمله بحيرة , فلم يكن مستوى تفكيرها الطفولي أو خبرتها المحدودة بالحياة يسمحا لها بالقيام بأي تصرف , ترقرقت دموع الخوف في عينها لرؤية معاناة والدها تزداد وكرات العرق البارد تتكاثر على جبينه , فمدت يديها بحركة لا شعورية لتضعها على كتفه برفق , وتربت عليه بطريقة منتظمة .
كعصا سحرية مبهرة تخطف الأنظار , خطفت تلك اليد الصغيرة التي تربت على كتفه انتباهه لدرجة أنها أنسته إحساسه بالألم , لم يصدق أن ابنته ذات الثلاثة أعوام قد شعرت بآلامه وقررت أن تشاركه إياها وجدانياً , كان قد جرب من قبل إحساس المواساة من الأب أو الزوجة أو الأم , لكنه كان شعوراً مختلفاً تماماً حين يتعلق الأمر بصغيرته الجميلة , نظرة الحنان والشفقة في عينها تفضح ما يحمله له قلبها من حب خالص غير مشروط , أناملها الرقيقة تبعث في روحه مزيجاً غريباً من الهدوء والسكينة , وجهها الملائكي الشفاف يبدو حزيناً من أجله متألماً لألمه , تلك الوردة التي لم تتفتح بعد تحاول أن تحتويه وتخفف عنه أوجاعه , وكأنها لم تكتف بكون وجودها في حياته هو مصدر السعادة الأهم بالنسبة له , فقررت أن تبدل الأدوار معه للحظات لتذيقه إحساساً هو أروع ما شعر به على الأطلاق .
وضع يديه على يدها ليوقف حركتها المنتظمة , ثم ضمها إلى صدره وارتسمت على شفتيه ابتسامة امتنان وحب , ابتسامة مشابهة لتلك الابتسامة التي يراها على وجه والده حين يواسيه أو يداعبه أو يشد من أزره , تلك اللمحات البسيطة التي كان يفتعلها أحياناً ويتذمر من القيام بها أحياناً أخرى , لم يعرف أنها تعني لوالده الكثير إلا عندما راوده نفس الإحساس , ولم يدرك قيمتها الحقيقية إلا عندما شعر بها كأب وليس كإبن , انتابه شعور عارم بالتقصير تجاه والده برغم كل ما يفعله له , وقرر أن يبدأ من الآن فى الاهتمام بصحة والده النفسية وأن يعطيه جرعة مضاعفة من الحنان والعطف , فقد أدرك أخيراً أن السبيل الوحيد لمساعدته وتخفيف آلامه هوأن يسانده معنوياً وليس أن يعمل كممرض له , وأن هذا هو الدين الذي عليه أن يدفعه الآن حتى يسترده كاملاً بعد عمر طويل .