سقوط السلام بين خيوط الفهم و الجمال
رؤية فلسفية لنص الشاعر الكبير سمير قاعود ( سقط اليمام )
بقلم / أحمد منصور الخويلدي
*************
مقدمة :- برغمَ أن النقد بدأ يتجرد من مناهجه القديمة، و يرتدي حُلة الإبداع التي تسامر المتلقي، و تأخذ بيد المبدع إلى مساحات الوجدان و خفايا يراها القارئ الواعي؛ هنالك أزمة كبيرة تواجهه. البعض يراها في قلة النصوص الجيدة رغم الكم الغزير من المعروض ، و البعض الآخر يصب غضبه على الناقد و يراه واقعا متسلطا على الخيال. أما أنا فأبتسمُ في وجه الاثنين، و لدي يقين كامل أننا سنحصد منهجا عربيا عما قريب من هذا الزخم الكبير .. إن قراءة الخيال بالخيال تستدعي موهبة فطرية، و معرفة حقيقية، و نقاء نفس تفرض ذاتها على ثالوث الهرم الإبداعي ، من هنا أسلمتُ خيالي لهذا النص المدهش، و أنا أربطه بخيط المعرفة، و أرتقي به نحو طائرته الورقية التي تحلق بالجمال بعيدا؛ لعلي لا أنزف وجعا مثل نخيل العرب.
ـــــــــــــــــــــــ النص ــــــــــــ
سقط اليمامُ
و لم يحرك ساكناً
هذا الذي في جرحهِ
طفلٌ و طائرةُ الورق
نزَفَ النخيل بروحه
نزَف النخيل و لم
يطأطئ رأسه
لكنهُ
يخشى السباحة و الغرق
يعلو صهيل الشمس ِ
جبهته الأخيرة
ويقايض الفرسان
بالجرذان مزهواً
ويضيء بالأحزان
عتمته البصيرة
من ذا يبيع النبضَ
للقبر المرصعْ ؟
لو كان ذبح الياسمين فجيعةً
قسماً فصمت العاشقين
بلادهم أبشع
قد أشعل الصمت اليمامَ
على الطرق
س
ق
ط
اليمامُ
ولم يحرك ساكناً
هذا الذي في جرحهِ
طفلٌ وطائرةُ الورق
ضحك افتراءً للزمنْ
و بكت أساطير البطولة مجدها
وتقيأ الموت الذي
سرقت أنامل سيفهِ
وهج السنابل والشجن
يا شهوة الصمت اهدئي
فلربما
كرِهَ الرخام أظافره
أو أنّ أصحاب العروش
سيصلحون الحنجرة
أو ربما
لن يترك
الحلم المقدس يحترق
هذا الذي في جرحه
طفلٌ وطائرةُ الورق
جرحت خرائط الانهيار الأسئلة
صرخ النبيذ الآن
من فرط الألم
دهست سنابك الانتقام فراشتي
وسرت بأوردتي تعاويذ اللغم
أنا لن أصدق حكمتي إلا إذا
قصفت مرايا القهر
شريان القلق
أو أن يحرك ساكناً
هذا الذي في جرحه
طفلٌ وطائرةُ الورق
ــــــــــــــــــــ الرؤية ــــــــــــــ
ستظلُ الخلفية المعرفية هي التي ترسمُ أبعاد الخطوط في لوحة كل مبدع، و يبقى للعنوانِ ملمح يفتح للقارئ نافذة ينظر من خلالها إلى مساحاتِ وجدانه . من هنا جاء العنوان ’’ سقوط اليمام ’’ يدفع بالدلالة نحو هوَّة كبيرة، يسبقه إليها اليمام، هذا الطائر الذي يظن الكثيرون أنه نوع من الحمام؛ لكنه صنف آخر، لكل منهما مميزات يمتازُ بها عن الآخر، ومن هذه الفوارق إذا أفلت فأنه لا يعود ولو كان أصله فرخا ربى بنفس المكان، ثم يجعل للنفي إطارا يَحدُّ السكون، و يشير بالصورة البديعة إلى الجرح النازف للأمة. و الملاحظ هنا إن المبدع ربط بين السكون و الحركة بخيط البراءة المتمثلة بالطفل القابض على حلمه من خلال طائرة ترفرف بجناحين أحدهما جرح الحاضر، و الآخر أمنية العلو و الرفعة، ثم يفاجئنا بتحريك الصورة البديعة، و يجعل من عروس الأشجار ’’ النخيل ’’ روحا تلج إلى الرمز و تنزف بالتكرار لتحقيق فكرته الدفينة في اللاوعي و النخل كما نعرف يمثل دلالات الشموخ في تاريخنا، و رمزا معطاء على مرِّ العصور، هذا النخيل الذي يرفض الانحناء، لكنه عاجز اليوم عن الصمود بوجه الحرائق الصاروخية التي تعصف بالأخضر و اليابس ... إن للصورة البديعة تأثيرها في وجدان المتلقي خاصة عندما تتكامل في وجدان المبدع و لا تخرج عن وحدة الموضوع، و المبدع تتشكل في وجدانه الفكرة كاملة ثم يعلو صهيلها، لنسمع جميعا هذا الصوت المتناغم، فقد أشعل ضياء الحرية المتعامد من ضياء الشمس جبهة مبدعنا، فصبَ غضبه على مجموعة الجرذان الفرحة باقتراضها عباءة الفروسية و الصمود، و جعل من الاستفهام نبضا يزين عقد الياسمين المذبوح في عنق الأمة الصامتة على اشتعال أطفالها كما اليمام على الطرق. .ها هو مبدعنا يضحكُ بكاءً من جديدٍ و يمارس طقوسه بالتحليق بعيدا بهذا الطفل و بتلك الطائرة الورقية، ليجعل الرمز يتناغم و وجدان المتلقي بين ضحكة البطش و قسوته، و بكاء الأساطير و وحشته ، يتقيأ الموت حياة لا معنى لها و لا مذاقا بعدما؛ فأصبح الموت نفسه شهوة نتمناها فلا نجدها، و بين اشتهاء الموت و اشتهاء الصمت يعلو ضجيج الكره لهؤلاء القابعين على العروش. إن رثاء الحُلم المقدس الذي يحترق بضمائرنا، و جرحتْ الحدود أبناءه للدرجة التي أصبحنا لا نجد وسيلة للاستفهام، و بقى خمر الصراخ لا يداوي الألم، و صرنا ندهس بعضنا و لا نحتاج للعدو؛ حتى وصلنا للدرجة التي تبدل الدم الذي يجري بالشرايين بالمتفجرات، وطلتْ مرايا القهر عاجزة عن انعكاسات القلق؛ فهل سنشاهد قريبا هذا الطفل يحمل طائرته الورقية و يركض بها بأمان داخل الأوطان العربية . إن أهم ما يميز هذا النص المدهش من وجهة نظري المتواضعة، سيطرة المبدع على كم الانفعالات العفوية التي تكتب ذاتها، و انغماسها في نسيج الحالة لتشكل لوحة شبه سريالية بالعديد من الرموز، لكنها جاءت جميعا لخدمة النص، و كانتْ الصورة بالنص أكثر من رائعة. و لو أردنا أن نتحدث عن الصورة و جمالها سنحتاج إلى العديد من الصفحات الأخرى . خالص التهنئة لمبدعنا على هذا الإبداع و الجمال و كل الأمنيات القلبية بدوام التوفيق .
الشاعر سمير قاعود