فتحتَ عينيك ..مرّ القطارُ بسرعةٍ ، لا صوت لديه ، ولا دخّان. المحطّة مرميّة خارج المدينة ، لا حارس يحميها، ولا سور يجمّلها ، موحشة أنتِ يا محطّة القطار. أراكَ ركضتَ..كبرتَ.. وعينكَ ترقب ذالك القطار السريع . أراكَ ركبتَ مسافرًا فيه. على كلّ مقعد رقمٌ، واسمُ صاحبه ، يلتقمُ كلّ مسافرٍ جاء يودُّ الرحيل، وينفثُ كل من قال فيه المراقب : انتهى زمان رحلتك ، انصرفْ.
هل رأيتَ كيف للسفرِ عشق لكلّ أعمار البشر ، هذا رضيعٌ يحبُو، وصغيرٌ يلهُو، يركضُ . هذا شاب يتمشّى، يتهادى ، وشيخٌ من فرط انحنائه جرَّ خطاه خلفَ دقّات عصاه .
وقفتَ عند النافذة ، ركضتْ ثواني رحلتك، كتلك الأشجار الهاربة صوب ذيل القطار. رأيتَ المروجَ تعانق عشق الهضاب ، وسحابةً تطلُّ في آخر الوادي لديها كلام غزل لتلك المروج . أطلّ عليك وجهها، كعادته مبتسما، أضاءت كل دروب روحك المنطفئة ، تصفحت وريقات ذاك الزمان الجميل .
قبالة كرسيّك شيخ كبير، احتضن بين يديه كتاباَ . قال لك :
ــ بنيّ، ألم تملّ من طول الوقوف خلف نافذة راكضة مع هذا القطار؟
قلت له :ـ يا شيخ ، نافذتي واقفة بوقوفي ، ولكنّي أرى سحرَ هذا الوجود يفرُّ.
فقال : قرأتُ..عرفتُ بأنّ بقاءَ الجمال محالٌ ، فكلّ بهاء، وكلّ نضارة إذا ما تعدّى القطار...تعود لقبحِ ذاك الظلام البهيم... تعال بنيّ، فكرسيك فارغٌ ، ولن يجلس عليه أحد سواك.
قعدتَ .. ولكن حين رفعتَ النظرَ، وجدتَ الكرسيَّ تغيّر، هنا كان شيخٌ و كان كتابٌ . كيف رحل؟ أين رحل ؟ ومن جاء بهذه المرأة السافرة ؟... جرّك إليها جمالُ الجسدِ ، و أوقدَ فيك لهيبًا، ظننتَه منذ زمان انطفأ . ولكن كما قال شيخُك : بقاءُ الجمالِ محالٌ . بسرٍّ تغيّر، بسرٍّ رحل، فأين تلاشى ذاك الجمال المخبأ في ذاك الجسد؟. حيرتُكَ تحاولُ خنقك بألفِ سؤالٍ غريبٍ... و تركض فيك هذه السنين.. تحاول همسك :
أما سمعت مراقب هذا القطار ينادي عليك ، محطتك القادمة ، استعد...