المركز الأول قصة الحرقة 38.5 للكاتبة فاطمة سليمان علي / الجزائر
الحَرْقَـة
نَزلَتْ منَ السيَّارةِ ... مشتْ مُثْقَلَةُ الخُطَى إلى ذلك الإمتدادِ الهائلِ المبهمِ العظيم، عيناها الدامعتانِ شاخصتانِ نحو الأفق، كان صمتُها رهيباً زاده رهبةً هديرُ الموجِ المتلاطمِ على بعضِ الصخورِ المتناثرةِ هنا وهناكَ.
لم تكُ تلك المرةُ الأولى التي ترى فيها البحرَ، فقد كان وِجْهَتَها للإستجمامِ، لأنه مصدرُ سكينتَها واسترخاءها، ومُلهمها في كتابةِ خواطرِها، يغريها سحرُ منظرهِ ـ ساعةَ الغروبِ ـ كما أغرى الشعراءَ والعشاقَ والشبابَ والتجارَ ... والفجارَ أيضا، فكانتْ تترأى لها الشمسُ حينها كأنها فتاةٌ مُستلقيةٌ على الأفقِ تمشطُ شعرها الذهبيَّ الممتدَّ إلى أعماقِ الخيالِ ... غيرَ أنه تحول إلى وحشٍ قضى على فرحها وأحلامها ... والباقي من عمرها. وبدتِ لها حُمرةَ شمسِ ذلك اليوم كأنها دماءُ أولائك الذين غدر بهم البحرُ فابتلعهم دونَ شفقة.
جثتْ على ركبتيها في غير وعيٍ لما حولها ولا إكتراثٍ للبللِ الذي أصاب ملابسَها، لا تسمع سوى هديرَ الموجِ المتكسرِ على الصخورِ كأنما أحسَّ بعذابها، يُشاطرها ألمَها وغضبَها وحزنَها الشديدَ، فقد تحول صوتُه في نظرِها إلى امرأةٍ ثكلى تملأُ المكانَ عويلاً وبكاءً على فقيدها ... كانت غارقةً في أحزانها، تسبح في بحرٍ لُجِّيٍّ من الآلامِ والآهاتِ ... والذكرياتِ. ولسانُ حالها يردِّدُ: " تُرى أيُّ ماءٍ إغتسلَ به؟ وأيُّ أرضٍ لفَّتْهُ واحتضنته؟"
رغم هولِ الفاجعةِ، كانت أفكارُها تأخذُها إلى ذكرياتٍ جميلةٍ عاشتْها معه ...فمازال صوتُهُ يرِنُّ في أذُنَيْها لما دخلَ يركضُ ويرقصُ فرحاً يومَ نجاحِه في الإبتدائية، "سأصبح دكتورا، دكتووور، دكتووووور ... سأعالجُكِ حين تمرضينَ، بل سأكون الطبيبَ المجانيَّ للعائلةِ، والجيرانِ، الأقاربِ، سأكون أولَ طبيبٍ يعملُ مجاناً" وكانتْ هي تقهقِهُ وتزغردُ.
ورغم أن فرحَهُ كان أقل في نجاحه في المتوسط لأنه إنتقلَ إلى الفرعِ الأدبيِّ، فهو لم يفقدْ الأملَ ولم تفتُرْ حماستُه حينَها، بل مضى يقول: "سأصبح محامياً أدافعُ عن الفقراءِ والمظلومينَ والضعفاءَ ..." ونظر إليها نظرةً فيها لؤمٌ وذكاءٌ وقال: "وسأتزوجُ طبيبةً تداويكم، وسيكون عرسُنا أسطوريٌّ لن يُنسى" فكانت ضحكاتهما تُجلجِلُ وتملأُ المكانَ.
لقد أدركَتْ الآن سببَ بعض سلوكاتِهِ في الفترةِ الأخيرةِ، وكيفَ كان مُطيعاً لها، يوصي إخوتَهُ بها وبوالدِهِم خيراً، ، يَتودَّدُ للجميعِ، يُهَوِّنُ عليهم ما يشغَلُهُمْ. وكيف كان يحرصُ على حضورِ المناسباتِ فَيُوَثِّقُها بالفيديو ... لكن آلافَ التساؤلاتِ تتزاحمُ في فكرِها ...
ماذا جرى حتى تغيَّرَ ابنُها؟
من حسَدَهُ أو أصابهُ بعينٍ حتى خَبَتْ جذوةُ الأملِ في داخلِهِ؟
ما سببُ إهمالِهِ لدراستِهِ؟ من أقنعَهُ بضياعِ مستقبلِهِ مهما كانت الشهاداتُ التي قد يحصُلُ عليها؟
من غرسَ في ذهنه أنه بالهجرةِ سيُحقِّقُ المعجزات؟
متى بدأ يفكر في هذه العملية؟ كيف خططَ لهذه المغامرةِ المشؤومةِ؟
من ساعدَهُ...؟
تساؤلاتٌ كثيرةٌ لا تجِدُ لها إجاباتٍ ... ماذا ... من ... متى ... كيف ... أين .... كلماتٌ لم تعدْ تُفارقُ تفكيرَها، ولن تُغيِّرَ القدرَ ولن تُنسيها الفاجعةَ.
بقيَتْ هناكَ واجمةً ساهمةَ، غارقةٌ في هواجسِها، مُكِبَّةٌ على رأسِها، وحولها زوجُها وأولادُها يبكونَ ولا يجرؤونَ على الإقترابِ منها ومقاطعةِ خلوتها الخياليةِ بابنها... وفجأةً ... غرسَتْ يدَيْها في الرملِ كأنها تمنَّتْ لو كان للرّملِ جذورٌ ممتدةٌ في أعماقِ ذلك البحر حتى تجتَثَّها علَّها تجدُ جثَّةَ إبنِها عالقةً هناك، فتحضُنُهُ، تقبِّلُهُ، تبكيهِ كما تبكي كلّ أمٍ ثكلى إبنها وهي تودِّعُهُ الوداعَ الأخيرَ. فمازال لديها الكثير لتقولَهُ لَهُ ... لتعيشَهُ معَهُ ...
رفعتْ رأسَها أخيراً لترى أن الشمسَ قد غابتْ منذ مدةٍ وأن الليلَ قد أرخى سدولَهُ على المكانِ فلفَّهُ في ظلامٍ دامسٍ لم تستطع إنارةُ الميناءِ البعيدِ المنعكسةُ على أُفُقِهِ أن تُرسِلَ أشعتَها إلاَّ إلى جزءٍ بسيطٍ منهُ فكانت الأضواءُ تبدو باهتةً مرتجِفَةً كأنها خائفةٌ من هولِ الظلامِ الذي أطبقَ على هذا المدى الكبيرِ العميقِ فهزمَ كل نورٍ فيه كما هزمتْ الفاجعةُ كل بذرة نورٍ وأملٍ في داخلِها