80 درجة
تأبطت حقيبة يدها وهي تسير عائدة إلى بيتها عابرة نفس الشوارع والأزقة التي تسلكها منذ أعوام طويلة حتى أنها لم تعد تهتم بتفاصيلها ولا بمرتاديها، نفس الروتين اليومي الذي صار جزء من حياتها، ونفس الوجوه التي تراها صباحا ومساء.
لكن كل شيء صار مختلفا اليوم، كأن الطبيعة قد جددت ألوانها، كأن الأزهار تتنافس على إبراز رونقها وجمالها، كأن الطيور قد زادت من نبرة زقزقاتها، كأن السماء قد إغتسلت بأمطار الربيع فنزعت عنها السحب الرمادية وأعادت لها زرقتها الجميلة، كأن الشمس أرادت أن تعوض برد الشتاء بدفئها.
ترى هل يمكن أن تتغير الأحاسيس في لحظة من الزمن؟ هل يمكن لهذه اللحظة أن تمحي عن النفس كل الأحزان التي عاشتها، وكل الآلام التي عانتها، وكل الهزائم التي خذلتها؟ وهل للحظة واحدة أن تقلب الأمور من النقيض إلى النقيض؟
عواطف جياشة ومشاعر متناقضة تتصارع بداخلها كانت كلها تعلن عن سعادة عارمة إجتاحت نفسها، حتى أنها تخاف أن تظهر على محياها فيُفتضح أمرها.
كيف لا تخاف وهي التي أمضت سنوات طويلة تخفي حزنها وبؤسها وانكسارها؟ هي التي فقدت والديها وأختها في حادث مرور ولم يُبْقِ لها الموت سوى أخ وحيد كان قرة عينها، وكأن المنية لم تكتف بذلك فأخذت منها جدها ثم جدتها فبقيت هي وأخوها كالقشة في قلب الأعاصير ... يتم وحرمان وذل تحت سيطرة زوجة عم متسلطة وعم ضعيف الشخصية فلم يكن لهما بد سوى الجد والإجتهاد ليكملا دراستهما والعودة إلى بيتهما المؤجر منذ وفاة والديهما.
فهل ستنصفها الحياة بعد كل ذلك الشقاء؟ هل ستسكن السعادة قلبها إلى الأبد؟
بدا لها الطريق أطول مما كان، كانت تتلهف للوصول حتى تدخل غرفتها وتفجر بركان سعادتها فلا تكتمها خوفا أو خجلا. غرفتها التي شهدت أحزانها ودموعها وإنكساراتها المتتالية، غرفتها التي كانت أحيانا تتحول إلى زنزانة تحبس نفسها فيها حتى تهرب من لؤم إبنة عمها أو بالأحرى زوجة أخيها التي نابت عن أمها في السيطرة والإذلال. فهل ستتحول إلى قصر أحلامها الوردية؟ هل ستكون جنتها التي طالما أرادتها؟ هل ستصير حديقة غناء بالتفاؤل والفرح والحب؟ هل سينبلج صبح جديد بعد كل الظلام الحالك الذي عاشته؟
كان هذا أملها الوحيد بعد أن إلتقت به فبل أسبوع في مكان عملها وصار يرتاد المكان بحجة إتمام معاملة، فيختلق الفرص ليكلمها. تعلقت به، صارت تنتظر إطلالته، تتوقع محادثته بل تتوق للحديث معه، وكان اليوم حاسم فاصل بالنسبة لها حين طُرِقَ باب مكتبها وهي منغمسة في عملها فقالت دون أن ترفع رأسها عن الورقة التي في يدها:
" أمهلني بضعة دقائق لأنهي هذه وسأعطيك المفتاح"
فسمعته يقول: " لا داعي للمفتاح فقد دخلت قلبي دون استئذان، فهل تقبلين مني مفتاح بيتي؟"
:::::::::::::::::::::::::::::