رفعت الجلسة للمداولة... محكمة
أخيرا هدأت أعصابه قليلا بعد أن وقف مشدودا منذ الصباح ينتظر دوره خلف القضبان. القضايا الكثيره التي تشغل وقت القاضي وذهنه فيما يبدو هي التي جعلته بهذه العصبية. كان المحامي موفقا في مرافعته. ولكن؟ هل يكفي ذلك؟ هل يقتنع القاضي؟ نعم قيلت الحقيقة مجردة. ولكن المحامي لم يستخدم محاورات ومناورات كما حدث في قضايا أخرى.
عاد إلى توتره فاستند على القضبان يضغط على خوفه يريد أن يسيطر عليه.
حانت منه إلى صغيرته نظرة. وجدها تنظر إليه وقد تجمع في عينيها كل الألم والسهر والحزن والخوف الذي اجتاح الأسرة كلها وزلزل كيانها ووضعها على حافة الهاوية.
أغمض عينيه يقطع خيوط الأفكار ويخفف من نزعة الخوف. عادت به ذاكرته ثلاثة أشهر. ضرب القضبان بيده لا يريد أن يستعيد هذه الذكرى الآن. لكنه لم يستطع. غلبته نفسه وأرغمته على متابعة الأحداث المريرة.
كان اليوم نهاية أسبوع العمل يتعجل الوقت لكي يعود إلى زوجته وابنته ليقضي معهما كالعادة أحلى لحظاته. وجد رئيسه في العمل يطلبه. ذهب إليه في تثاقل يتوقع أن يكرر العرض عليه. موقعه في الحسابات يمكن أن يجعل منه غنيا. هو قانع رغم ذلك بدخله المتوسط الذي يكفيه ليحيى حياة كريمة مع أسرته. طرق الباب فسمح له المدير بالدخول على الفور. نظر إليه في حد يستثيره. لكن هدوءه وثقته في أخلاقياته لم يتأثر بذلك. سأله المدير عن رأيه للمرة الأخيرة. ركز ناظريه على خاتم ضخم من الذهب يتوسطه حجر كريم احتل موقعه في يده. رفع ناظريه من الخاتم إلى عيني رئيسه مبتسما يسأله سر تمسكه بهذه الرغبة الغريبة في تجاوز الحلال رغم ما يملك. ظن المدير أنها بوادر لين في موقفه المتحجر فرد في ثقة أن المال لابد أن يزيد ولا يوجد من لا يحب زيادة ماله.
استأذن خارجا فاندهش المدير لكنه كرر طلبه بنبرة تهديد واضحة هذه المرة. لم يأبه لكلماته بل خرج دون انتظار. عاد إلى مكتبه متعجبا متأففا من هذا المدير الجشع الفاسد وأمثاله.
لم يكد يجلس حتى جاءه صاحب معاملات مع الشركة يسأل عن مستحقاته. رحب به ودعاه إلى الجلوس إلى أن ينتهي من إعداد ما طلب. حين انتهى من ذلك طلب منه العميل فتح مظروف خاص بالعمل. ما أن أخذه منه بحسن نية حتى فوجئ بمن يقتحم المكتب. ثم تبين أنهم الشرطة بالمختصة بالرشوة والاختلاسات.
هاله الموقف وألجم لسانه. وأصاب جميع زملاءه في العمل الذهول التام. وحتى عملاء الشركة لم يصدقوا. اقتادوه وسط الجمع المذهول والذي كان في نهايته المدير الفاسد تعلو ضحكته الشامتة وتحيط بنظراته تعبيرات شيطانية.
جثا على ركبتيه في القفص الحديدي. لم يستطع أن يتماسك حين وصلت ذاكرته إلى عيني ابنته الذاهلتين الفزعتين وهي تراه خلال المراحل الأولى للتحقيقات. تساقطت الدموع ملتهبة من حدقتيه. فوجئ بابنته متعلقة بالقفص تنظر إليه في خوف. يبدو أنها لاحظت انهياره ودموعه. نظر إليها ليسمع همسات تطمئنه بأن الحكم لن يزيد عن سنة وربما مع إيقاف التنفيذ إن لم تكن البراءة.
ارتفع رنين إحدى ساعات الجالسين تعلن الثالثة في نفس اللحظة التي ارتفع فيها صوت الحاجب يعلن عودة الجلسة للانعقاد.
جحظت عيناه في اتجاه القاضي الذي أخذ في تلاوة الأحكام حسب ترتيب القضايا حتى وصلت اللحظة الحاسمة في حياته.
حكمت المحكمة حضوريا.....
فجأة. اهتزت منصة القضاء تبعها القفص الحديدي ثم الجدار فالسقف. انخلعت قلوب الحضور فأخذوا يتدافعون إلى الخارج والصرخات تتعالى في فزع. الكل يبحث عن نفسه يريد أن يتخطى من يسبقه في وحشية. الحرس ووممثلوا العدالة.
وجد نفسه حرا طليقا بعد أن هرب كل من حوله. الاهتزازات تزيد والحرية تناديه. ربما كان الموت. تعلقت به ابنته بعد أن كادت تموت وهي تسير عكس اتجاه الهاربين كالطوفان لتصل لوالدها.
ارتمت في أحضانه تبكي. ثم دعته للهروب. نظر إليها. ثم نظر إلى صورة الميزان المعلقة أعلى منصة القضاء. قام وأخرج ابنته برفق خارج القفص الحديدي. طلب منها أن تجلس مكانها. ثم أخذ يردد:
الحرية ليست في الفرار. الحرية في العدل.