المركز الثالث مكرر قصة من يُؤمِّنْ لي شهْقة العوْدة؟ 37.5 درجة للكاتبة حسناء محمد علي / المغرب
من يُؤمِّنْ لي شهْقة العوْدة؟
أود أن أخبرك أيها الحب عن رقعتي المخضبة بشرتها جروحا، وركبتيها اللتين أقعدهما الروماتيزم كلما اشتد الشتاء. وددت قبل مرافقتك طلي جدران مدني المشققة، كحبة رمَّان أتى عليها المطر وهي بعد معلقة بالشجرة، تمنيت تبليط الطرقات بكثير من الماكياج، كوجه تلك السيدة على الرصيف مضطرة تجر نصف ثوبها، تخبئ ما استطاعت من ملامحها تُسكت ضميرا لا يكف يصرخ: رفقا بالأنثى فيكِ..
أظنك تتساءل كيف لي ذلك؟ سأغنيك عن السؤال بجواب، هذه التربة الخصبة التي تراها مزيفة تتبرج لموكب عابر، وتنتقب ما تبقى من أشهر السنة، هي في الأصل مدمنة سجائر، اسودَّ قلبها وتآكلت رئتاها، لن تجدي معها حصص الإبر الصينية نفعا.
هاتِ يدك أيها الحب، لن أكذب -ولو أنهم علموني كذبا أبيض لا يُسجل لأجله مَلَك اليسار إثما- اتبعني فقط. كل شيء هنا يتلوَّن كالحرباء الجبانة.. لا أحد هنا يقوى المواجهة، على فكرة هذا مدخل مدينتي، اذهب وزرها وحدك إن شئت؛ إني كلما ولجتها أصبت بدوار.. هذه الأرض تنافقني على الدوام، خلتها تحبني لكنها في الأصل لا تعرفك، ابتسامتها صفراء.. ألم أقل لك كلّ هنا يتلون. أنظر إلى تلك الأسوار! إنسان بحق يتحدث، كم قاومت ضرب الرصاص وهي تراب، كم دارت عن جنود الوطن، خلفهم نساء يغذين المدافع بالذخيرة.. تأمل تجاعيد تلك العجوز الملتحفة بالأزرق، محياها تاريخ حي لم ولن يُروى، كل أبناء هذه الأسوار يؤلفون فتاوى، وحدهم الفاشلون يتوارن خلف حجاب الدين.. ستسألني حتما ماذا عن الجدار؟ الجدار الآن يحمي سكارى أول الفجر من دوريات الشرطة.
أغرتني هذه المدينة الهادئة، فاقترحتها عليك، علني أعيد ماء وجهي الذي جف وتبخر.. كل شيء هنا مرتب، كلّ على علم بوجهته، الناس هنا لا يلتفتون أبدا.. لا يكسر هذا الهدوء سوى مظاهرات لا تكاد تنقطع أمام البرلمان، هناك أيها الحب يقف أساتذة الغد مقهورين، يتحملون وَعيد السوط والاعتقال من أجل مهمة كانت زمنا مضى أشرف المهن.. في يد هؤلاء مستقبل جيل برمته، كيف لأستاذ أعياه النضال أن يقف لعمر آخر أمام سبورة وطبشور يدرس لتلاميذٍ –غدهم مبني للمجهول- التاريخ وقيم التربية على المواطنة؟ كيف له أن يعلم الناشئة الحساب؟ وهو يوم عدّ أجرته اقتطعوا نصفها.. ما أفق مدينة بها مدرسة على الهامش وعشرة مساجد، مصطفة تباعا؟
على هذه الجهة يقف طلبة الطب رافعين راية الجهاد لأجل غير مسمى. كيف لجسد هزيل أصابته الشعارات بالسعال أن يداوي أمة دون نقل العدوى إليها؟ كيف لطبيبة يسكنها الخوف أن تقطن غرفة بقمة جبلية وعرة؟ تعالج هنالك الضباع وذئاب البرية.. أما البشر، حتما غادروا أوكارهم مذ عقود.. هؤلاء تعبوا، وكل هنا متعب.. والألسنة هناك خرساء...
أحدثك لأخفف عني، شُجاعة بما يكفي لأخاف وأنا بين أحضانك، أخشى يوم أبرحها، من يغنيني عنك؟ بإمكاني أن أشد بيدك ونعيد الإعمار حجرا حجرا، كل قطعة نرصها بحب.. نمسح من على الجدران الألوان المزورة، شمسنا شمعة برتقالية لا تموت، تحارب من على الكوكب الجراثيم.
يوم دلفت مدينتك ذات سنة توشك على النهاية، شعرت بها تحضنني، تمدني بهوية ووطن جديدين؛ قلبك.. الغربة الحقيقية نعيشها مع ذواتنا، مع مدننا. كان الجو حينها جميلا جدا، كأني جرعة منشط عدّلتْ بي الأماكن مزاجها، وأعادت ترتيب أغراضها، حين سمعتُ نداء المحطات: "ورزازات، ورزازات" انقبض قلبي.. من يؤمن لي شهقة العودة؟
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::