المركز السادس مكرر قصة مهاجر 35 درجة للكاتب أحمد باشا / سوريا
مهاجر
أطبق جفنيه ليعصر دموعا كانت محتبسة في مقلتيه، فتسيل بغزارة عبر أخاديد بضة، وتابع : هجرنا وطننا مرغمين، لم نكن نرى إلا شبح الموت جاثما فوق صدورنا، يأتي ضاحكا مع سيارات مفخخة، مقذوفات عمياء، حرب عشواء ..مما أجبرنا على الهجرة
....سأروي لك قصة صديقي المحزنة جدا..
-صديقي، كان عمره أربع سنوات عندما أصيب بشظايا سيارة مفخخة انفجرت في حيهم، أدت إلى استشهاد إخوته الثلاثة، غص وهو يتابع بمرارة:
بترت ساق صديقي اليسرى وأصابع يده الأربعة..أوقفته غصة ثقيلة تتربع حلقه ..كان حزينا كأنه يحمل هموم الدنيا في ذلك الوقت علما بان ملامحه تدل على استقرار في شخصيته، ذلك الشاب الوديع الذي لقيته يجهش بالبكاء بينما كنت أجلس أحتسي القهوة في أحد مقاهي دمشق القديمة، فعرضت مساعدتي لتخميني أنه يحتاجها، ولكن كان يسترجع أياما ملأت حياته غصة وألما- بعد تعرفنا على بعض- حلّق يسرُّ لي بكل شفافية وطيبة وبلهجته العراقية الرائعة..
تخلص من غصته بصعوبة وتابع:
بعد أن بترت ساق صديقي وأصابعه الأربعة، واستشهاد إخوته، قرر والده الهجرة عبر البحر وبمساعدة مهربين يمتهنون هذه المهنة..كان عدد المهاجرين كبيرا جدا بحيث جعلت السفينة متثاقلة في خطوها، مرت خمسة أيام لا يُرى فيها إلا الماء والسماء ولا يُسمع إلا تصارع الأمواج بينما اللغط والهرج والمرج وبكاء الأطفال ودعاء الأمهات يعج السفينة؛ زاد الأمر تشاؤماً عندما نادى أحد العاملين عبر مكبرات الصوت:
تهيئوا للانتقال إلى زورق سينقلكم إلى الشواطئ الايطالية؛ فزادت الجلبة وتعالت الأصوات والاستنكارات، لم يراعوا الاتفاق ولم يأبهوا بأحد بل قذفوا الأمتعة والأشياء كلها من أعلى السفينة إلى الزورق، وكل من يتردد كانوا أيضا يلقون به وكأنهم يتعاملون مع ماشية ...
غص المركب بالمهاجرين، وتثاقلت خطواته واعتراه الضعف من ثقلٍ لن يقوى على المتابعة.. زاد اللغط وكثر الدعاء والتضرع لله تعالى لينقذهم من هذه المحنة..تناسوا نفاد الطعام والشراب في سبيل نجاتهم...البكاء والعويل تمازج مع اضطراب البحر وصخب أمواجه..صديقي ولأول مرة يرى الضعف والخوف قد تملك وجه أبيه القوي، بينما صمت لبكاء أمه قليلا، وانفجر باكيا للرعب الذي رآه يلازمها رغم تهدئة والده له، فجأة صرخ قائد الزورق برعب هو الآخر: من لديه طوق نجاة فليلبسه، المركب يتداعى، هنا زادت الجلبة..واختلطت الآهات ..فالتصق صديقي بأبيه وتشبث بكتفيه، لم تثنه تهدئة والده له...
وهكذا خرّ المركب صريعا، وتناثر ما بأحشائه من ثقلٍ..سلّم صديقي بالأمر وقال:
أبي، أين ذهبت أمي؟
رد بيأس كبير:اهدأ بني ستعود.!.كان يعوم مرغما والضعف تسلل إلى أنحاء جسده هو الآخر.
وبينما كان صديقي يتمسك بقوة برقبته؛ كان الوالد يمسك بإطار مطاطي صغير يحاول أن يربط بأطرافه بعض الأقمشة المتناثرة ليكون مقعدا لصغيره، وبالفعل أنهى مهمته وأجلسه وأحكم ربطه وسط الإطار..
هنا انهار الشاب ولم يعد يستطيع متابعة حديثه بل انفجر صوت بكائه المخنوق واضطرب بشدة، حاولت تهدئته لم أفلح..سكت فجأة؛ صعقني بقوة وهو يسحب ساقا اصطناعية ملقاة بجانبه.. لبسها، وودعني معتذرا بيد لا تحمل إلا أصبعا واحدا.
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::