أنت عمري ... بقلم الكاتب المصري إيهاب بديوي ـ مجلة نجوم الأدب والشعر

لم يكن يتصور أن إخفاقه في العام قبل الأخير له في الجامعة سيقابل بكل هذه الثورة في المنزل رغم أنها المرة الأولى في حياته التي لا يستطيع اجتياز امتحان فيها. ما أن أخبرهم حتى كان الصياح والاتهامات الملقاة يمينا ويسارا تصيبه في أعماق ذاته. تزلزل كيانه وتهد أحلامه. لم يطق أن يستمع إلى كل هذا الكم من الاتهامات دون دفاع. انفجر. لم يكن ذلك وليد الحدث. بل نتاج تراكمات في نفسه عبر السنوات الماضية خاصة منذ التحق بالجامعة. كان يأسى كل لحظة على الأيام التي تضيع من عمره يقاسي آلام الحياة. لم يحسب أبدا ما يعيشه من العمر. كان يسقطه من حسابات الذاكرة أولا بأول. انفجر فخرجت الكلمات تعبر عن عذاباته. واكتشف أن ما منعه عن ذاكرته احتفظت به النفس في مكان آخر. ربما في الروح لتستشهد به حين يكون الحساب. فوجئ الجميع برد فعله العنيف فأصابهم الوجوم. فقد ظنوا أن الفتى الهادئ الصامت المستباح يمكن أن يكون بهذا العنف. أين ذهبت الرقة في صوته والحنو في نظرته والهدوء حتى في غضبته. لم يستطع أن يكبح جماح ذاته فأطلق لها العنان تعبر عن آلامه وتخلصه ولو مرة من عذابات صمته. عدَّد سنين عمره وطلب منهم أن يتذكروا ما حصل عليه خلالها ثم يقارنوه بما حصل عليه من نشأ معه. أين راحة البال التي تمكن أقرانه من التفوق وتجعله عاجزا حتى عن النجاح. أين هدوء النفس المشتعلة الثائرة برغم المظهر الهادئة والهيئة الوديعة.
لأول مرة يواجههم بحقائق تغاضوا عنها بل وأسقطوها من حساباتهم حين رأوه على حاله. لم يستطع أحد أن يرد ولم يتحمل نظراتهم بل أراد الخروج حين تذكر من تنتظره.
فتح الباب. وإذا بكلمة تخترق الصمت... كبرت ...
ابتسم دون أن يلتفت وخرج. ذهب إلى كليته فرآها. تنتظر حيث تعودا. كان يبدوا هادئا كعادته. فملامحه التي تكونت مع سنين عمره جعلت من الصعب على أي إنسان قراءة ما بداخله. بل يعطي انطباعا إيجابيا. وربما أصاب ذلك كثيرا من نفسه حين كان يجد ذوي السطحية في الفكر والضآلة في القدر ينتقدون هذه الابتسامة الدائمة ويأولونها إلى ضعف في شخصيته. يذكر كم حاول أن يمحو تلك الصورة أو حتى يقطع علاقته بهم. بدأ يستشعر شيئا جديدا يجيش بصدره. أحاسيس مختلفة لم تمر عليه من قبل. حاول تفسير هذه المشاعر وترجمة تلك الانفعالات لكنه لم يستطع.
وصل إلى حيث تنتظره. انشغل بها عن نفسه. لاحظ زوال ابتسامتها عندما اقترب منها. بادرته في قلق تسأله عن كل هذا الغضب الذي يملأ قسماته. حقا ضياع عام من العمر لا يعوض لكن تغير الطباع وتلوث البراءة لا يمكن تعويضه. فوجئ تماما بحديثها. كما أسعدتها الابتسامة الفورية التي عادت لتميز ملامحه. لكنها غابت سريعا حين نظر إليها متعجبا.
أخيرا أدرك الأحاسيس التي تجيش بصدره ولم يستطع ترجمتها. انه التغيير الذي طال انتظاره. أخيرا استطاع التحكم في تقاسيمه والتخلص من تلك الابتسامة الدائمة. أخيرا يمكن أن يعبر وجهه عن مشاعره دون زيف أو خوف على مشاعر أحد على حساب نفسه. عام كامل من عمره كان يجب أن يدفعه ثمنا حتى يصل إلى ما يريد. كان عليه أن يتذوق الاحساس المر بالفشل والانكسار حتى يسيطر على نفسه.
نظر إلى أميرة قلبه التي كانت حتى الصباح تليه بعام دراسي. العام القادم سيكونان معا. تذكر عمره الذي لم يكن يشعر بأيامه حتى رآها. شعر بمعنى الجمال في الحياة لأول مرة. أمسك يديها. فرحت به. هاهو يعود لنفسه. للإنسان الذي عرفته. هادئا. عنيفا. حالما. عميقا. تحدثت تريد أن تواسيه وتنسيه آلاما ظنت أنه يعانيها...
ضغط على يديها في شوق قائلا: أنت عمري....